Tuesday, November 11, 2008

مدبرة المنزل


إنها مدبرة المنزل كما أحب أن ادعوها ، رأيتها أول مرة وأنا في الصف الأول الثانوي أي منذ 14 عام مضت ، لم تكن والدتي تفضل فكرة أن يساعدها أحد في أعمال المنزل، كانت ترى إنها تفعل ذلك بكفاءة أفضل، ولكن في هذه الفترة لم تكن صحتها على ما يرام ولذا قررت أن تفعلها وهي مترددة ، منذ أول يوم دخلت به منزلنا ارتحنا جميعًا لها بجسدها النحيل وطاقتها الكبيرة وذكائها المتقد، لم تحصل على قدر كافي من التعليم ولكن ذكائها الفطري متميز وطموحها في أن تحقق الكثير عالي للغاية ، عاشت حياه مريرة في كنف زوجة أبيها وهي طفلة فتزوجت من أول من طرق بابها وهو يكبرها بخمسة وعشرين عام ،فقط لتهرب من جحيم زوجة الأب، فوجدت إنه كان أرحم من مفرمة الزوج، أنجبت طفلين في هذه الحياة العسيرة حتى حصلت على الطلاق كل هذا وهي تعيل ذاتها منذ كانت طفلة حتى بعد الزواج، بالعمل في البيوت.

تزوجت مرة أخرى وهي تعتقد أن الحياة ستبتسم لها و أنها ملكت من الخبرة ما يؤهلها لتجيد الاختيار ولكن لم يحدث ذلك، لم يفرق الزوج الجديد عن القديم رغم قرابته لها، لم ترحم من الخدمة في البيوت أو من إعالة ذاتها وطفليها، بل زاد على ذلك إعالة طفل ثالث وهو أبنها من زوجها الجديد، ولكن الشابات المصريات مؤمنات تمامًا على ما يبدو بالمقولة القائلة "ضل راجل ولا ضل حيطة" فلقد قررت أن تستمر ، الصراحة أن زوجها أفضل من كثيرين حولها – على حد قولها- فهو على الأقل لا يجبرها على أن تعطيه ما تكسب هي حرة تمامًا في أن تفعل به ما تريد فقط هو لا ينفق عليها أو على الأبناء.

كانت هذه هي حالتها عندما جاءت لأول مرة لتعمل لدينا ، كنت اجلس لأستمع لها وهي تحكي لوالدتي عن كل هذا وأتساءل داخلي لماذا تضحك مع كل ما عانته؟؟ تدخل المنزل ضاحكة، تبدأ العمل الشاق مبتسمة ، تدخل لتطلب مني شرائط الكاسيت الحديثة لتضعها في الكاسيت وتستمع لها وتدندن معها طوال فترة عملها، تحكي حتى عن كل ما مرت به وكأنها تحكي لنا الفيلم الذي شاهدته أمس بحيادية كاملة دون أي محاولات لرسم المسكنة أو الاضطهاد.

كنت اتعجب بشدة من شخصيتها، وعندما علمت إنها التحقت بمحو الأمية لتحصل على شهادة ضربت كف بكف، إنها تعمل في عدة أماكن و جدولها مزدحم للغاية، فمن أين تحصل على الوقت؟؟

كنت أسمع طوال عمري مصطلح "شغل خدامين" وهو يعني أن الشغالة أو الخادمة لا تعمل بضمير بل تؤدي عملها كيفما اتفق (من فوق الوش) كما كانوا يقولون، وترسخ في ذهني أن أي شخص سيأتي ليساعدنا في المنزل سيزيد المنزل اتساخًا و ليس العكس.

ولذا كان تفانيها في العمل مبهر بالنسبة لي، ألم أقل أن جدولها مزدحم ،إنها تعمل بضمير تام في سرعة لم أراها و بنشاط جبار.


كانت والدتي تدعو لها بأن يعطيها الله الصحة قبل أن تدعوا لنفسها على اعتبار أنها تقوم بكل ما يجب أن نقوم نحن به فهي أولى بالدعاء.

وعندما حملت في الطفل الرابع توقعنا أن تتوقف عن العمل ولكنها لم تفعل ، ولم يقل نشاطها حاولنا بشدة أثنائها عن العمل حتى في فترة الحمل الأخيرة ولكنها رفضت تمامًا واستمرت تعمل حتى الأسبوع الذي يسبق الولادة ثم نزلت بالعمل تحمل طفلتها الوليدة في الأسبوع الذي يليه.


سمعت من بعض أفراد الأسرة الذين تعمل هي لديهم أيضا عبارة جديدة" شغالة بولد يخللها بلد" إن ثقافتنا الشعبية لم تترك شيء..


والبعض أراد أن يتهرب منها على اعتبار أن عملها في وجود طفل رضيع سيتأثر، ولكنهم عادوا وتراجعوا عندما وجدوا أنها لم تتأثر مطلقًا.


و مع الوقت اكتشفت أن طفلتها مريضة بمرض نادر وإنها تحتاج إلى العلاج، فكانت تلف وتدور على كل من تستطيع لتأخذ علاج على نفقة الدولة مرة وتحصل على تصريح بعملية مرة أخرى وتقاتل وتتشاجر و تتحايل يمينا ويسارًا وتسعى بشكل رهيب لتتوفر علاج ابنتها بشكل كامل وتام لم تترك حقها للحظة أو تفقد الأمل في حصولها عليه..


كل هذا دون أن تتوقف عن تعليم أبنائها الأربعة ولا العمل ولا التعليم..


وعندما أسألها كيف تفعل كل ذلك، تؤكد أن أبنائها أمانة أودعها الله لديها ويجب أن تحافظ عليهم، وألا تفعل بهم ما فُعل بها.


و فجاءه بعد10 سنوات من العمل لدينا قررت التوقف..


لقد قررت أن تعمل عمل أقل شقاء فسنها يكبر وبعد سنوات لن تستطيع أن تفعل ما تفعله ويجب أن تؤمن ذاتها، عملت كحارسة لحمامات السباحة في أحد النوادي ، مع عمل تجاري بسيط من شراء منتجات بسيطة وبيعها بالقسط.


لم تتفاءل والدتي بالأمر واعتقدت أن عمل النادي هذا موسمي ولن يبقى ولكنها لم تحاول الضغط عليها ..


لقد رحلت من حياتنا على حين غرة..


شعرت للأمانة بفراغ كبير ليس على مستوى نظافة المنزل فقط ، بل على المستوى الشخصي..


حوديتها المتصلة عن جيرانها وشارعها ومن فعل ماذا و كيف يفكر فلان وكيف يخطط وماذا فعلت جارتها التي ضربها زوجها وماذا فعل البوليس في الباعة المتواجدين في شارعهم، ثم حكايتها في كل مرة يرمي عليها زوجها يمين الطلاق .. وخوفها من وقوع اليمين الأخير..طلبها الدوري مني كل عام بان أصنع تورته لأبنتها في عيد ميلادها، لأنها تحب أن تحتفل به وتدخل البهجة على الطفلة المريضة.


هذا الإعصار النشيط المتحرك فقده منزلنا في لمحة بصر..


حاولنا أن نستعين بأخرى ولكن فشلت كافة المحاولات كل واحدة تأتي لتعمل مرة أو اثنان ولا نرتاح لها فنستغني عن خدماتها.


وقررنا والدتي وأنا أن نكتفي بمجهودنا فقط ،وقد كان واعتدنا أن نعمل في المنزل دون مساعدة احد كنت قد أنهيت دراستي و بدأت العمل ولدي وقت و مجهود كافيين للقيام بواجبات المنزل.


كانت في البداية تأتي لتسأل علينا ولكن عندما فشل عملها بالفعل ابتعدت تمامًا بخجل.


لم نعد نعرف عنها شيء، ثم علمنا أن إحدى قريبتنا قد أعادتها للعمل فقط، وأصبحنا نعرف أخبارها منها.


أعتبر والدي أن ما فعلته هي يعد خيانة فلقد تركتنا في وقت كنا في حاجة لها دون سابق إنذار، واعتبرت و والدتي أنها تهاب أن تكبر في السن بالفعل وكان يجب أن تبحث عن مصدر دخل جديد يتلاءم مع عمرها القادم يجب أن تخطط للمستقبل.


ولكن الخلاصة أن والدي رفض رفض قاطع أن تعود للعمل لدينا.


وانتهى الأمر..


في هذا الوقت تعرضت لحادث و لكسر شديد في قدمي عانيت معه لما يزيد عن عامين من علاج خاطئ في البداية ثم من العلاج الطبيعي وغيره، و أصيبت والدتي بمشاكل في القلب .


و تحول المنزل لكارثة قومية لا يهتم به احد..


يتم الاهتمام به في الأعياد والمناسبات الرسمية فقط.


علمنا من قريبتنا أنها مصابة بالالتهاب الكبدي وأنها مريضة للغاية ،كنا نسأل عليها ونودها ولكن دون أن نتقابل ، لقد توقفت عن العمل تمامًا لمرضها.


كنت أتذكر الشابة اللطيفة التي دخلت منزلنا ، وأتذكر أفكارها وطموحها و نشاطها واشعر بالحنين..


لا أدري هل هو حنين لها أم لهذه الأيام بأكملها .


الحقيقة أن حياتنا وهي بها كانت أكثر هدوء ورخاء.


قد يعتقد البعض إنني أبالغ ولكن كل من في المنزل لاحظوا ذلك..


منذ عدة أيام عرفنا أنها مع مثابرتها ومطاردتها لحقها في العلاج على نفقة الدولة كما كانت تفعل دائمًا قاتلت و شفيت وقررت العودة للعمل، أحد أبنائها تزوج والاثنان الآخران يعملوا بشكل جيد و الابنة ما زالت تدرس..


وهي مازالت ترى أن عليها واجب اتجاه كل هؤلاء لم تنهيه ..


وأعلنت إنها تريد العمل ثانية..


هذه المرة صممت والدتي أن تعود..


اعترض والدي بأنها لن تكون بكامل طاقتها بعد المرض ولن تفيد كثيرًا ولكن والدتي صممت وأخبرته انه لا يهم ، يكفي أن تساعدنا على قدر استطاعتها و أن نفعل المثل.


منذ عدة أيام استيقظت من النوم على صوتها بالخارج ، تفتح الكاسيت الذي لم أشغله منذ عدة سنوات (فلقد استغنيت عنه بالكومبيوتر) و تتكلم بحماس لتحكي كيف طلقها زوجها الطلقة الأخيرة عندما علم بمرضها و تركها..


وكيف أن عيد ميلاد أبنتها هذا الشهر وتريدني أن أصنع لها تورته.


هممت سريعًا من الفراش لأراها تبدأ العمل وكأن 4 سنوات لم يمروا وكأنها لم تترك المنزل يومًا، ولم تفقد لمحة واحدة من نشاطها فقط زاد نحولها قليلاً.


وأنا احتضنها لأسلم عليها ، شعرت أن هناك شيء ما يعود لمنزلنا قد أفتقده لفترة..


هذه النظرة المتقدة ذكائًا فطريًا يجيد التعامل مع وقائع الحياة كما هي ويجيد تطويعها ليعيش، هذه الرغبة الشديدة في تغير مصائر أبنائها عن ما عاشته هي، هذا الطموح الكبير لأن تصبح شيء مازال يطاردها ويلح علها.


كل هذا عاد لمنزلنا مرة أخرى بعودتها.. عندما أخبرت صديقتي بذلك اندهشت وقالت أنها مجرد خادمة في المنزل فلما أعطيها هذه الأهمية؟؟


الحقيقة أن هذه من وجهة نظري مشكلتنا الحقيقة.. فهي ليست مجرد خادمة.. بل إنسانة تملك الكثير وتعلمت منها ومن مثابرتها الأكثر.


كلما قرأت أو شاهدت ما يقال و يروج عن طبقة محددة من البشر عن سكان العشوائيات و مدى ما هم عليه من سوء وفشل و انحطاط –كما يقول البعض- تذكرتها، وتذكرت حواديتها الكثيرة عن جارتها و أقاربها وشارعها، حواديت لا تسعى لان تتجمل بل تحكي كل شيء بلا تزويق ، ولكن من يريد سيجد بها حيوات كاملة تصلح لملأ كتب من كفاح وإصرار ومثابرة لم نستطيع يومًا أن نملكها..


إنني اكتب هذه التدوينه فقط لأقول لها – وإن كنت أشك إنها ستقرئها- شكرا لكِ.






12 comments:

TAFATEFO said...

عندي حكايتين مشابههتين .. لكن الزمان كان أقسى على بطلتيهما من بطلة بيتكم

واحده انتهت نهايه سعيده .. والثانيه ما زالت تخوض غمار معترك الحياة

ربنا يعينهم جميعاً ويصبرهم ويفرح قلوبهم ويجزيهم عن صبرهم خير الجزاء ان شاء الله

None said...

ابكتينى وفرحتينى
بجد سرد رائع وفعلا فى ناس كتير بتكافح كده
واسخن من كده كمان
فعلا حقهم علينا نقلهم
شكررررررررررا

Dr. Eyad Harfoush said...

عزيزتي دعاء
تدوينة رائعة بكل الصدق، و مختلفة عن تيار القطبية الذي تنظر فيه كل طبقة لباقي المجتمع بتوجس، لا أنكر أن الطبقة الوسطى في أي مجتمع تكون نوعا ما محافظة على تقليده أكثر مما هو أعلى و أدنى منها اجتماعيا، و لكن سمة الكفاح تحديدا فقدتها طبقتنا الوسطى المصرية بسبب البسترة الفكرية بعد 1974 و حتى اليوم، و لم يبق الا الطبقات الكادحة تحمل الكثير من شرف النضال من أجل غد أفضل للأولاد
أشارك والدتك الدعاء لها، عسى الله أن ينبت كفاحها في بنيها نباتا حسنا
مع وافر التحية و التقدير

شمس النهار said...

ذكرتيني بداده الله يرحمها
ربتنا انا واخوتي وكان لها اثر طيب عندنا جميعا
صدقيني مش عشان هي شغاله
لا الست المصريه كده مقاوحه
شوفي الست اللي زوجها بيموت ويسيب لها اطفال بتعمل ايه
وعلي فكره الناس دي من رضاهم بعيشتهم ربنا بيعوضهم
ربنا يبارك لها في صحتها ويعوضها خير

Anonymous said...

احببت مدبرةمنزلكم
حزنت لدهابها و فرحت لعودتها
واحببت اسلوب الحكي

دعاء said...

أسفه للتأخير في الرد على الجميع بس انا كنت مسافرة الأيام ألي فاتت و مكنش تحت أيدي كومبيوتر منتظم علشان أنتظم في الرد..

مصطفى

الحالات دي كتير بالفعل جدًا يا مصطفى ، واكثر ما عجبني في حالة بيتنا أنها راضيه جدًا عمري ما شفتها بتسخط على القدر ومع كده مش مستسلمة ، لا، بتدور على حقها في الحياة ولكن من غير ما تحبط ، ربنا يقويهم جميعًا حقيقي

دعاء said...

فنان جيولوجي

أشكرك على تفاعلك، وبالفعل الناس ألي في الظروف دي اولى الناس أننا نشكرهم على مكافحتهم وصبرهم

دعاء said...

د.أياد

يسعدني أنك تشرف مدونتي لأول مره

و أتفق معك تمامًا ، بل ربما ما دفعني لكتابة التدوينه هو حالة التوجس هذه التي اجدها لدى الجميع من الطبقة المتوسطة وبطبيعة الحال الطبقات الاعلى يتكلمون وينظرون للطبقات الأقل بنظرة دونيه شديده ، حتى وإن تعاطفوا على مستوى المساعدات المادية على السبيل المثال تجدهم يقوموا بذلك ولكن لسان حالهم يقول إنهم طبقة أدنى أقل خلقًا ودينًا و مسئولين بشكل أو أخر عن حالتهم

هذه النظرة تغضبني بحق وأشعر انها لا تأتي من أشخاص يتعاملوا مع البشر الأقل منهم بسطحية مطلقه

وللأسف تفكيرهم هو التفكير السائد الآن

دعاء said...

شموسه

أخبارك إيه

بالضبط يا سيتي إذا كانت دي صفه بالفعل في الست المصرية غالبًا ليه دائمًا عايزين ينفوا عن الست المصرية ألي مستواها المادي أقل الصفة دي، مع إن الحقيقة إن الطبقات دي هي الوحيدة ألي بتكافح بجد في الحياة ايومين الدول.

دعاء said...

روز

شكرًا لاعجابك بأسلوب الحكي، و سعيدة للغاية لأن مدبرة منزلنا استطاعت أن تترك أثر لديكِ

Anonymous said...

جميلة جدا التدوينة دي يا دعاء

روز said...

حلوة أوي، بجد وصفك وحكيك لها جميل جدا ، ما شاء الله يعني :)

!وعينيا دمعت فعلا
...

بصي إنتي معاكي حق، مش لازم نحط ناس معينين في تصنيف معين لمجرد إنهم جايين من إحدى الطبقات أو أخرى، لكن اللي بيحصل إن فيه ناس كتير منهم بتدي صورة مش كويسة عنهم..
للأسف!
....
سلامي لمدبرة المنزل بتاعتكم :)