Wednesday, April 16, 2008

عن حرب البسوس والطغاة في كل الأزمنة

أعتقد أن من يعرفني الآن يعرف ولهي المرضي بقصيدة "لا تصالح" حتى إنني قد بدأت بها هذه المدونة ،ولكني في تعرفي على القصيدة قرأت الصيغة الأدبية التي صيغت عليها القصيدة أو التي اقتبستها القصيدة -بمعنى أصح- من ملاحم التاريخ لتأخذها هيكل لبنائها، وهي ملحمة "حرب البسوس" الحرب التي دامت 40 عامًا من أجل ناقة ، وتبدأ القصيدة بأن (كليب وائل) وهو يموت كتب بدمه على الحجر ليوصي أخاه (الزير سالم) بوصية على شكل قصيدة من عشرة أبيات وبعيدًا عن العشرة أبيات الحقيقيين التي تنقلها لنا ملحمة "الزير السالم" بالفعل كتب (أمل دنقل) رائعته لا تصالح ،طوال عمري كنت أقرا القصيدة وأقلبها في عقلي على الفور لأفك رمزيتها المباشرة بلا عناء ، مَن قتلوا (كليب) هم أشارة مباشرة لإسرائيل ، ولذا داخل عقلي كإسقاط طبيعي كنت كلما تذكرت ما وصلني من الملحمة الحقيقة أشعر بكراهية شديدة لـ(جساس) بن مره قاتل كليب.

وقد أثرت القصيدة المستوحاة من الملحمة بي بشكل عكسي فجعلتني أفسر الملحمة نفسها على أساس القصيدة وليس العكس، ربما حدث هذا لأنني في الحقيقة لم أكن في البداية قد قرأت الملحمة مطلقًا ومعرفتي بها مجرد معرفة سماعية عن (حرب البسوس) التي قـَتل بها (جساس) أبن عمه ومليكه (كليب وائل) بناقة ثم ثأر اخو (كليب) (الزير سالم) من قاتل أخيه وقبيلته في حرب دامت 40 عامًا ، كانت هذه هي معلوماتي كلها عن الملحمة وكنت كلما تذكرتها أو قرأت القصيدة أصب جام غضبي على (جساس) وغدره الذي غدر بـ(كُليب) الملك العربي الأصيل، ولكن منذ فترة قررت أن أبحث عن الملحمة الأصلية لأقرئها ، فقرأت النسخة الشعرية منها و قرأت النسخة التي تحولت مع الوقت لحدوته أو رواية سردية فانتازية بعض الشيء ، ثم بعدها بفترة رأيت المسلسل السوري الذي أخرجه المخرج المتميز (حاتم علي) والذي اختلفت بعض أحداثة مع النسخة التي قرأتها للملحة ولكن بعد البحث اكتشفت أن هناك أكثر من نسخة عن ذات الملحمة يختلفوا عن بعضهم البعض في بعض التفاصيل التي لا تُخل مطلقًا بالسياق العام .

وهنا بدأت أجدني تلقائيًا كلما تقدمت في القراءة أو المشاهدة أزداد تعاطفًا مع (جساس) و أزيل عنه الصفة التي ألصقتها به منذ صغري ظلمًا وعدوان، أنه المعادل الموضوعي لإسرائيل في الملحمة إنه كذلك في قصيدة (أمل دنقل) ولكن في الملحمة الآمر يختلف تمامًا ، من قرأ الرواية أو شاهد المسلسل سيعرف كيف أن (وائل بن ربيعة) العربي المعتد بذاته وبقبيلته بعد أن قاد القبيلة في حرب محدودة ضد ظلم وتجبر (لُبيد) عامل الملك (الكندي) ثم نصره متميز على (التُبع اليماني) ملك اليمن نتيجة لتجبره أيضًا فقام هو –(كُليب)- و أفراد قبيلته على قدم المساواة في الحرب و مواجهة الموت واقتسام المهام من أجل شرف (الجليله) خطيبته وابنة عمة ، كيف انه بعدما عادوا منتصرين قدروا به ملكاته في القيادة ونصبوه عليهم ملكًا ، رغم كونه ليس أكبرهم عمرًا، حتى هنا والأمر مثالي وجميل ، إلا أن شخصية (وائل) الذي كُني بعد المُلك بـ(كليب) قد تمحورت وتطورت وتحول شيئًا بشيء إلى طاغية يمنع الجميع عن مورد الماء في البداية عادا عائلته وعائلة عمه الذين هم في ذات الوقت أهل زوجته كمجاملة لها ، و كيف يمنع إضرام النار في أي بيت دون إذن منه حتى لو كان ذلك لأداء واجب الضيافة اتجاه ضيف طرأ على إحدى عائلات العرب ونحن نعلم ماذا عنى إكرام الضيف للعرب قديمًا، و كيف منع الصيد في حماه بل وتكبر على أبناء عمومته حينما رغبوا في مصاهرته والزواج من أخته بحجة إنهم ليسوا كفأ لمصاهرة ملكًا و أن أخواته كأخوات ملك لا يتزوجن إلا الملوك .

بل ذهب إلى حد الاستهانة بمن هم أكبر منه عمرًا ولهم مكانة عالية بين العرب مثل عمه (مُره بن ذُهل) أو (الحارث بن عُباد) ومحاولات إجبارهم على أن يكونوا طوع أمره وألا يخالف أحد رأي له ، حتى لو كان خاطئ ، لا شخص قريب ولا بعيد يستطيع ذلك حتى أخاه (سالم) المُكنى بـ(المهلهِل) ، ونشأت المشكلة الرئيسية عندما أرادات (البسوس) خالة أبناء عمومته وأصهاره في أن تجعل ناقتها (سراب) ترعى مع القطعان ،وبصرف النظر عن كون (البسوس) كانت لديها أغراض أخرى خبيثة من الانتقام والدس، إلا أن حماقة (كُليب) بغروره ورؤية أن آراءه لا تُرد وأنه لا يخطأ إلى أخر كل أعراض جنون السلطة قد جعلته يصل لمنع الناقة من أن ترعى وللانتقام من أبناء عمومته وأصهاره لأنهم لا ينصاعوا له كما يريد –رغم انصياعهم الكامل له في الحقيقة- إلى حد منعهم من الرعي مع قطعانه هم أيضًا بل منعهم تمامًا من موارد المياه المتواجدة في حماه حتى كادت تنفق قطعانهم .

كل هذا و (مُرة بن دهل) عمه يغالب هذا القهر صابرًا متعللاً مرة بالقرابة والدم ومرة بالمصاهرة والنسب ومرة بالمُلك والمكانة ، محاولاً تهدئة أبناءة التي كانت تثور حميتهم مع كل مرة يـُظهر بها (كُليب) استهانته بهم ويتأجج غروره ، وكان أكثرهم عدم صبرًا على الإهانه وعلى هذه المعاملة هو (جساس) الذي أخذ يرغي ويزبد وهو يتواثب غضبًا كلما حدث موقف يشي بامتهان (كُليب) لهم ،و في النهاية بعد أن منعهم (كُليب) من الماء قرر (جساس) أن يجير الناقة (سراب) وهو ما يعني عند العرب أن هذه الناقة في حماه من يعتدي عليها كأنه اعتدى على من أجارها ، وهنا أقسم (كُليب) انه لو حاولت الناقة أن تقترب من المرعى لترعى أو من المورد لتشرب ليضرب ضرعها بالسهم طالما حماها (جساس) ، فأقسم (جساس) إنه لو مس الناقة سوءًا ليضرب (كُليب) برمح في ظهره ،وهكذا أشطاط (كُليب) غضبًا وبمجرد أن رأى الناقة ترعى قام بضربها بسهم قاتل في ضرعها ثم ربط سائسها من يديه ليجره خلف حصانه فوق الأرض على طريقة فيلم (الأرض) الشهيرة، وبالطبع لم تصمت (البسوس) بل جعلت من الأمر مناحة محققه وهي تندب ناقتها وتندب (سعد) سائسها وتندب حظها الذي جعلها تأتي هنا حيث لا أحد يمكنه أن يجيرها قائلة:


أيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل فإني في قوم عن الجار أمواتي
ودونك أذوادي إليك فإنني محاذرة أن يغدروا ببنياتي
لعمري لو أصبحت في دار منقذ لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار معشر متى يعد فيها الذئب يعدو على شاتي.


وهكذا أخذت تزيد من ثورة (جساس) الثائر أصلاً فيعلن انه سيأخذ بـ(سراب) ناقة البسوس جمل (كُليب) (علال) ،ولو كان هذا قصده لكان الرجل كريم في رأيي (وعداه العيب) ناقة بجمل، ولكن رغم انه لم يعني ذلك إلا أن (كُليب) قرر في غطرسة وتحدي أنه لا احد يجرؤ على الاقتراب من جمله وانه سيطلق (علال) ليرعى وإن أقترب منه (جساس) ليقتل (علال) ثأرًا لـ(سراب) فسيقوم هو بقتل (جساس) ثأرًا لجمله، وزاد هذا من غضب (جساس) أن يعتبره (كُليب) لا يساوي سوى جمل، ولكن الحقيقة أن (جساس) كان يشغل الجميع بما فيهم أباه وأخوته ليحاولوا حماية (علال) جمل (كُليب) اتقاءً لغضبه.

و قام هو بتتبع (كُليب) حتى لقاه ليبدأه بحوار ، والحقيقة أن كل المصادر التي قرأت بها القصة يظهر منها أن (جساس) كان قلقًا ومترددًا حتى في عملية قتل (كُليب) فثورة الكرامة داخلة هي ما دفعته لذهاب لـ(كُليب) ولكنه كان يعلم انه ليس ندًا له، ولم يكن في واقع الأمر يريد أن ينتهي الصراع بقتل أبن عمه وزوج آخته ومليكه بقدر ما كان يرجوا –في رأي الشخصي- في أن يتخلى (كُليب) عن غروره يعترف أن هؤلاء بشر لهم كرامة و انه أخطا في حقهم، ولذا نجد أن (جساس) يبدؤه بالسؤال عن سبب منعه الماء عنهم وسبب قتله للناقة ، فما يكون من (كُليب) إلا أن يسخر منه ، وقد كان سخر منه في البداية عندما رآه يقبل قائلاً له بأنه لا يساوي شيء في معيار الفرسان ، وعندما زادت ثورة (جساس) وهدد (كُليب) بأنه سيقتله ما كان رد فعل (كُليب) سوى أن هزأ من (جساس) متهمًا إياه بأنه لا يستطيع و أن اقل من 40 فارسًا يحاولوا قتله لا يتلفت لهم (كُليب) وهذا قمة الصلف و الغرور .

ورغم ذلك أخذ (جساس) يحذره مرة بعد الأخرى فما كان من (كُليب) سوى أن استدار له بجواده معطيه ظهره مستهينًا به إنه لن يستطيع فعل شيء،و هكذا ببساطه رفع (جساس) رمحه وضرب به (كُليب) في ظهره بل وعندما سقط وطلب شربة ماء اخبره (جساس) بأنه قد منعهم الماء فليس له أن يعطيه الماء الآن ، و لم يكتفي الأخ (كُليب) بذلك بل كتب بدمه بالفعل عشرة آبيات كوصية لأخيه (الزير سالم أبو ليلى المهلهِل) يوصيه بها ألا يضيع الثأر و ألا يصالح و أن يفنى قبيلة (بكر) قائل بها:


هديت لك هديه يا مهلهل عشر أبيات تفهمها الذكاة
أول بيت أقوله أستغفر الله إله العرش لا يعبد سواه
وثاني بيت أقول الملك لله بسط الأرض ورفع السماه
وثالث بيت وصي باليتامى حفاظ العهد ولا تذكر سواه
ورابع بيت أقول الله اكبر على الغدار لا تنسى أذاه
وخامس بيت (جساس) غدرني شوف الجرح يعطيك النباه
وسادس بيت قلت الزير خي شديد البأس قهار العداه
وسابع بيت سالم كون رِجال لآخذ الثار لا تعطي وناه
وثامن بيت بالك لا تخلي لا شيخ ولا كبير ولا فتاه
وتاسع بيت بالك لا تصالح وأن صالحت شكوتك للإله
وعاشر بيت أن خالفت قولي فأنا وياك إلى قاضي القضاة


والحقيقة أن (سالم) كان عند حُسن ظن أخيه لدرجة ربما لم يتوقعها (كُليب) نفسه فكاد يُفني (بكر) و (تغلب) –قبيلتهم- تمامًا وقد قال عندما علم بموت (كُليب) :

كـليب لا خير في الدنيا ومن فيها
إن أنـت خليتـها فـيمـن يخليها
ليت السماء على من تحتها وقعت
وعادت الأرض و انجابت بمن فيها


وقَتل (المهلهِل) في هذه الحرب كل من يمكن أن يقتله مِن مَن يحبهم من أهله ومحبيه صديق عُمره (همام بن مره) و أبناء أخته (شيبان) و (شيبون) حتى تسبب في قتل صديقه الوحيد (آمرؤ القيس بن أبان) ، 40 عامًا من القتل و التاريخ يمجد (الزير السالم) و يذم (جساس) و يصفه بأنه غدار وقتل (كُليب) ظُلمًا ، الصراحة حتى ثُلثين الملحمة لم استطيع أن امنع ذاتي من تشجيع (جساس) واعتباره الرجل الوحيد في الرواية الذي شعر بأن لدية كرامه و انه لن يصبر على المهانة ، الرجل الوحيد الذي رفض التجبر والظلم ، طبعًا كان هذا قبل أن يأتي الوقت الذي يختفي به (الزير سالم) ويستطيع (جساس) السيطرة وأخذ المُلك ليفعل ما يفعلوه الثوار غالبًا للأسف لقد تحول إلى طاغية أخر حتى ليجعلك الأمر تضرب كفًا بكف كيف أستطاع أن ينسى ما فُعل به؟! كيف حوله المُلك والسطوة لطاغية كالذي قتله بيده وكيف مارس بالضبط -ربما بقسوة أشد- ما كان يثور عليه؟

لذا عندما وصلت لنهاية الملحمة وقُتل (جساس) لم أتأثر به كثيرًا، رغم كوني مازلت أرى أن الرجل قد ظُلم في التاريخ والأدب فهو لم يفعل في البداية سوى أن ثار لكرامته، وصراحة بعد كل هذا الظلم والغباء والدماء أجد أن أروع ما في هذه الملحمة هو أن كل من بها تقريبًا قد ماتوا (كُليب) و (جساس) و (سالم) ومن ساندوهم ومن ساند من ساندوهم وحتى من اعتزلوا الحرب ماتوا أيضًا، وكلاً من الرؤوس الكبيرة كلما امسك أحدهم بزمام الأمور تحول إلى طاغية حتى يزيحه أخر .. مِن ما جعلني في النهاية احمد الله على موتهم و أقول (جتهم البلا ، بركه أنهم كلهم راحوا في داهية) ، وأكتفي بقراءة لا تصالح وأعود لوضع الإسقاط على إسرائيل على الأقل هذه عدو واضح لا يحتاج لتحليل لتكرهه بكل ما بك من قوة.

2 comments:

مراقب مصري said...

يا خوفي من التاريخ لما يعيد نفسه
قراءة جميلة استمتعت بها حتى آخر كلمة

بقول لك
لو قسمتي تدويناتك لمقاطع صغيرة (باراجرافات يعني) مش هيبقى أريح للعين؟

تحياتي
ولقاؤنا يوم 4 مايو
إضراب لكي نحيا

دعاء said...

أسعدني بجد إنك استمتعت بها رأيك من الأراء التي أحترمها كثيرًا

ولقد أستفدت من نصيحتك بتقسيم التدوينه لبرجرافات بالفعل و أرى انها أفضل وأريح للعين في القراءة حقًا

شكرًا للنصيحة المفيدة فما زلت قليلة الخبرة في عملية التدوين .

وإن شاء الله لقاؤنا 4 مايو
إضراب لكي نحيا وبكرامة.